السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين ..
يوم الحســــــــــاب..
قال تعالى في محكم كتابه الكريم
وان كل لماجميع لدينا محضرون ) ((96)) .
صـحـيـح ان الـناس وجميع المخلوقات في هذه الدنيا وفي كافة الاحوال ,في محضر اللّه تبارك وتـعـالى , فهو حاضر في كل مكان وهو معنا اينما كنا وهو اقرب الى انفسنا منا, ولكن هذه المسالة تـتـخـذ بعدا آخر يوم القيامة فمن جهة يكشف عن جميع حجب الغفلة والجهل فتصبح الابصار حادة قـويـة والـقلوب ذات بصيرة نافذة ومن جهة اخرى تتجلى في ذلك اليوم آثار اللّه اكثر من اي وقت اخر فتقام محكمة عدله وتوضع موازين القسط.
حقا انه مشهد عظيم الكل يحضر ليقف على ماقدم وعمل في الحياة الدنيا, الكل في محضر اللّه تعالى .
وقال أيضاً: (اللّه يحكم بينكم يوم القيمة فيماكنتم فيه تختلفون ).
مـن الـبـديـهي ان انواع الحجب التي تحيط بفكر وقلب الانسان في هذه الدنيا (حب الذات , الانانية , المصالح الشخصية والطائفية , العصبية حجاب الذنوب ) لاتسمح بحل اختلافات الاقوام والشعوب , ولـكـن عـنـدمـا تـرفـع جميع هذه الحجب ويصبح الحكم للّه الواحد القهار عند ذلك تنتهي جميع الاخـتـلافـات والمنازعات ان المبطلين بعد ازالة هذه الحجب ينقادون ويرجعون الى عقولهم بحيث يصبحوا هم المحاسبون لانفسهم .
تجسيم العمل :
أولا : لماذا العقوبة والشدة يوم القيامة ؟
هل الارتباط بين العمل والجزاء وضعي اعتباري كارتباط الأجير مع رب العمل ؟ أم ارتباط حقيقي تكويني ؟
في الحقيقة هناك تجّسم للأعمال في الآخرة , أي عمل الإنسان له ظهورين و وجودين , وجود دنيوي ووجود أخروي في الدنيا والآخرة .
وما يراه الإنسان في ذلك العالم إنما هو حقيقة عمل هذا الإنسان , عمله ينتقل من هنا إلى هناك وليس جزاء العمل .
صحيح توجد نسبة من الجزاء لكن أكثر ما يراه الإنسان هو حقيقة عمله .
القرآن قال ذلك ويراه كذلك .
القائلون بهذا الكلام يستدلون بقوله تعالى : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيدا ) .
في الآية (محضرا) أي أن العمل يحضر , فالخير يأتي والشر يأتي .
( تود لو أن بينها وبينه أمدا ) أي يتمنى الإنسان أن يكون بينه وبين ذنوبه فاصل , ويتمنى للخير والعمل الصالح يتمنى يلقاه بسرعة .
الآية الثانية ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم )
النور من أين ؟
عالم القيامة عالم ظهور حقائق العمل والانجاز وليس عالم إيجاد , الأساس في الدنيا ويظهر في الآخرة .
المنافقون يقولون ( انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) أي ارجعوا للدنيا وهو من باب التعجيز فلا رجوع للدنيا .
نور الإيمان .. نور الطاعة ..
في الحقيقة تجسّم للأعمال ما يتنّعم به وما يعذّب به هو حقيقة أعماله , لذا لا نقول كيف هذا العذاب فهو تجسّد لعملك .
من أشد المواقف على الإنسان هي نفس عملية الخروج من القبر , حتى أن بعضهم يخرج قدم واحدة فقط ويظل ثلاثمائة سنة ليخرج القدم الأخرى من هول البعث .
الإنسان يخرج معه من قبره مثال يخاطبه لا تحزن يا صاحبي أنا معك , نلاحظ هذا الشخص عبر على عقبات ومواقف عديدة حتى وصل بك إلى المحكمة الإلهية . أوصلك للحساب النهائي ثم يحاسبك الله حسابا يسيرا ويأمر بك إلى الجنة , حينها تسأله من أنت ؟ فيقول لك : أنا السرور الذي أدخلته على قلب أخيك المؤمن في الدنيا , لاحظ هنا بساطة العمل لديك في الدنيا وعظمه في الآخرة فلا تستحقر أي عمل تقوم به .
ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما عُرِج به للسماء رأى ملائكة تبني قصراً من لبنة , وفجأة توقفوا عن البناء , فسألهم عن سبب توقفهم فأجابوا : ننتظر حتى تجيئنا النفقة .
الملائكة تبني القصور وهي متفاوتة يعتمد تفاوتها على رصيد الإنسان من الصالحات في الدنيا .
الملائكة توقفت للنفقة .. لكي تبني قصرك تحتاج للعمل , كل لبنة هي عمل صالح تقوم به .
أشكل بعض المفسرين على مسألة تجسّد الأعمال فقالوا : لا يوجد شي تجسّد للعمل .
دليلهم : أن ما يقوم به الإنسان من أعمال يُفنى , العمل متبوع بالعدم , لا يدوم ويتبعه الفناء .
يقولون : العمل الصالح يفنى فكيف يحضر يوم القيامة ؟ إنما جزاء العمل هو الذي في القيامة .
الجواب :
جواب علمي فلسفي :
كل شيء يلبس لباس الوجود لا يتبعه العدم .
لا يوجد شيء يُعدَم بل يتغيّر صورته . إذن العمل سواء الذي أوجده الخالق أو العمل الذي أوجده المخلوق يشمله هذا الحكم , أي لا يتبعه العدم . العدم موجود نسبيا وليس مطلقا .
مثال :
صلاة المغرب نؤدي الصلاة ثم تنتهي , في الحقيقة لا نستطيع القول أنه مثلا بعد السادسة انتهى لأنه من السادسة إلى التاسعة نسبي , لكن إذا رجع الزمان للساعة السادسة مرة أخرى فالعمل موجود .
العمل محفوظ في أزمنته الخاصة إذن العمل يتبعه عدم نسبي .
في القيامة : العمل يحضر بمحضره الزماني لذا لا وجود للمشكلة .
الجواب العلمي الآخر:ان المادة والطاقة أمران لحقيقة واحدة , المادة تراكم الطاقات .
المادة تتحول لطاقات مختلفة حرارية .. نووية ....
العمل هو طاقة لم تكن في الأصل طاقة بل مادة .
مثلا : الوقود مادة تضعه في الحافلة يتبدّل لطاقة ميكانيكية حركية .. لا يوجد شيء عدم .
المادة انتقلت بظروف معينة لطاقة .
حقيقة الأعمال طاقة تتحول لمادة .
قد يصل العلم الحديث لهذه النتيجة فيحولّون الطاقة إلى مادة , فمالذي يمنع من ذلك يوم القيامة ؟
نخرج لثلاث مقدمات :
مقدمة أولى :عمل الإنسان طاقة تخرج منه .
مقدمة ثانية : الطاقة ثابتة في الوجود .
مقدمة ثالثة : الطاقة ثابتة تتحول لمادة .
نصل إلى نتيجة الفلسفة من تجسّد الأعمال وان ما يراه الإنسان بالقيامة هو حقيقة أعماله .
مسألة التخويف:
لله تعالى من أسمائه الربوبية (الرب).
يريد أن يربّي البشرية , والتربية تقوم على أمرين : التبشير والتخويف (التحذير) .
وأحيانا يكون تأثير التخويف أكثر من التبشير .
نرى آيات الله تعالى في التحديث أكثر من آيات التبشير .
أحيانا من يعبد الله خوفاً من النار أكثر من طمعه في الجنة ( قد يكون غنيا ومتنعما في الحياة الدنيا ) .
مثال :
إذا تربّي طفل وتريد تحذرّه أنت تعلم أنه لا يدرك لذا سوف تخوفّه لأنه لا يفهم , لكن بعد مرحلة الرشد سوف يتغيّر الأمر وبنفسه سيفهم الأمور .
البشرية لا تستطيع إدراك حقائق الأحكام الشرعية , الله جل وعلا حماية منه لعباده استعمل عامل التخويف .
الآن لو يأتي إليك شخص يقول لك الصلاة ليست واجبة ولكن الله يحبها , هل ستصلي فقط لأن الله يحب الصلاة ؟؟
عامل التخويف مسألة مهمة في تربية البشر .
العقوبات ضمان لتنفيذ القوانين الإلهية
نجد أن القوانين الوضعية ( كقانون المرور مثلا ) توضع فيه عقوبات لضمان تطبيقه ,, فكيف بقانون يضعه الخالق لكافة البشرية ؟
إذن مسألة التخويف مهمة لضمان التنفيذ وهي من صفات الأولياء , وإن مع مرحلة الخوف ستبدأ مرحلة العشق بعدها .
الخوف غريزة فطرية لولاها نهلك , نحن نخاف من البرد فنلجأ للدفء , نخاف نار الدنيا فلا نقربها .
هناك قسمان للخوف :
خوف مذموم :وهو الخوف من الشيطان وأوليائه ( إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه ) , كذلك الخوف من المستقبل من ناحية مادية وغيرها , الخوف من الظلمة أعوان الشياطين ....
خوف ممدوح :الخوف من الله .
لا نقصد أن الله يخوّف بل يخاف الإنسان أعماله , يرى سيئات أعماله في الآخرة , يخاف المستقبل ليس من جهة مادية بل بخاتمة حياته والعاقبة وعند النطق بالشهادتين وهل سيكون موته على ولاية الدين , يخاف نزعة الروح , فلحظة نزع الروح شديدة .
هذا خوف ممدوح لأنه يجعلك تنشط في العمل .
لا يُصلِح المؤمن إلا الخوف , لا يُصبِح إلا خائفا فلا يصبه لا غرور ولا عُجب .
إذن علامة الخوف الممدوح عدم الكسل في العبادة والاجتهاد في الطاعات .
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس الصبح فنظر لشاب في المسجد يخفق ويهوي بنفسه قد غارت عيناه في رأسه .
سأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت ؟
قال : أصبحت موقناً .
قال عليه الصلاة والسلام: - لكل شيء علامة – ما علامة يقينك ؟
قال : يقيني أحزنني وأسهرني ليلي بالعبادة ونهاري بالصوم وعزِفَت نفسي عن الدنيا وما فيها , رأيت أهل الجنة يتنعمون وأهل النار يتعذبون وكأنّي أسمع زفير النار في مسامعي , كيف لي ان أعيش , يا رسول الله ادعوا لي بالشهادة .
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة , فاستشهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه في إحدى غزواته .
نحن لماذا لا نعيش حالة الخوف ؟
لأننا لم نقرأ عن النار ولم نفهمها وهي مرحلة عالية , لو تحاسب نفسك كل ليلة لن تنام للصباح , هكذا ستصل لمرحلة الخوف .